شراكة تتجاوز التاريخ
في خطوة تعكس التحولات العميقة في المشهد الجيوسياسي العالمي، تفتح واشنطن وهانوي صفحة جديدة في علاقاتهما، صفحة قد تكون الأكثر أهمية منذ نهاية حرب فيتنام. زيارة وزير الدفاع الأمريكي إلى هانوي ليست مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل هي إشارة واضحة على أن المصالح الاستراتيجية المشتركة قادرة على تجاوز أشباح الماضي الأكثر إيلامًا. إن سعي الولايات المتحدة لتعميق روابطها العسكرية مع فيتنام يمثل تحولًا تاريخيًا، حيث يسعى الخصمان السابقان اليوم لبناء أسس متينة لشراكة أمنية قد تعيد تشكيل موازين القوى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
التنين الصيني والبوصلة المشتركة
لا يمكن فهم هذا التقارب المتسارع دون النظر إلى العامل الأكبر الذي يحركه: الصعود المتنامي للصين. إن سياسات بكين الحازمة في بحر الصين الجنوبي، ومطالبها الإقليمية الواسعة، وتوسعها العسكري، قد خلقت قلقًا مشتركًا لدى كل من واشنطن وهانوي. بالنسبة لفيتنام، يمثل هذا تهديدًا مباشرًا لسيادتها ومصالحها البحرية. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فهو تحدٍ لهيمنتها ولمبدأ حرية الملاحة الذي طالما دافعت عنه. هذه الرؤية المشتركة للخطر الصيني هي البوصلة التي توجه البلدين نحو تحالف أوثق، مما يجعل التعاون الأمني ضرورة استراتيجية وليس مجرد خيار.
صفقة F-16: أكثر من مجرد طائرات
تعتبر المحادثات الجارية بشأن صفقة أسلحة ضخمة، قد تشمل طائرات مقاتلة من طراز F-16، هي الترجمة العملية لهذا التقارب. إذا تمت هذه الصفقة، فلن تكون مجرد عملية تحديث للجيش الفيتنامي، بل ستكون بمثابة إعلان سياسي مدوٍ. إنها تعني تخلي فيتنام التدريجي عن اعتمادها التاريخي على العتاد العسكري الروسي والانفتاح بشكل كامل على التكنولوجيا الدفاعية الغربية والأمريكية. هذا التحول لا يعزز فقط القدرات الدفاعية لفيتنام، بل يربطها بشكل أعمق بالمنظومة الأمنية الأمريكية، مما يخلق تحديات جديدة لبكين.
دبلوماسية الخيزران: فن التوازن الفيتنامي
على الرغم من الحماس الأمريكي، تسير فيتنام على حبل مشدود بحذر شديد. تتبع هانوي ما يُعرف بـ "دبلوماسية الخيزران": جذور قوية (ممثلة في استقلاليتها وسياستها الدفاعية القائمة على عدم الانحياز)، وجذع مرن (قادر على التأقلم مع المتغيرات). ففيتنام تشترك في حدود طويلة وعلاقات اقتصادية هائلة مع الصين، ولا ترغب في استفزاز جارتها العملاقة بشكل مباشر أو أن تجد نفسها في خضم مواجهة بين القوى العظمى. لذا، فإن هدفها هو تعزيز قدراتها على الردع دون الانجرار إلى تحالف رسمي قد يحد من مرونتها الدبلوماسية.
أبعد من الأمن: المصالح الاقتصادية والاستراتيجية
العلاقة بين الولايات المتحدة وفيتنام تتجاوز بكثير الصواريخ والطائرات. فيتنام هي لاعب اقتصادي رئيسي في جنوب شرق آسيا وعضو مهم في رابطة دول الآسيان (ASEAN). بالنسبة لواشنطن، فإن فيتنام القوية والمزدهرة والمستقلة هي جزء لا يتجزأ من استراتيجيتها لـ "محيط هادئ حر ومفتوح". تشمل الشراكة تعزيز مرونة سلاسل التوريد، والتعاون في مجالات مثل الأمن السيبراني والسلامة البحرية، ودعم نظام دولي قائم على القواعد. إن تعزيز العلاقات العسكرية هو في الواقع حجر الزاوية لبناء شراكة استراتيجية شاملة تخدم المصالح الاقتصادية والدبلوماسية لكلا البلدين.
ملامح نظام إقليمي جديد
في الختام، فإن المحادثات بين البنتاغون وهانوي ليست مجرد أخبار عابرة، بل هي مؤشر على ولادة ملامح نظام إقليمي جديد. إنها قصة عن كيفية قيام الواقعية السياسية بإعادة كتابة التاريخ، وتحويل الأعداء إلى شركاء لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل. إن نجاح هذه الشراكة الوليدة وتطورها سيعتمد على قدرة الطرفين على إدارة توقعاتهما واحترام الخطوط الحمراء لبعضهما البعض. ولكن الأمر المؤكد هو أن نتيجة هذه "الرقصة الاستراتيجية" لن تؤثر على واشنطن وهانوي فحسب، بل سترسم مستقبل الأمن والاستقرار في واحدة من أكثر المناطق حيوية في العالم.
المصدر:https://www.malaymail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق